الوضع المظلم
الإثنين ٠٦ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
السياسةُ الاستلابيّة
عبير نصر

إنّ من صور اعتلال الحياة السياسية في سوريا، بدءاً من العام 1971، أنها تختصر كيان الدولة في شخص الرئيس "المخلّص"، الذي لا بديل عنه في الخيال المجتمعي العام، لتضفي هالة من القدسية على حياته ومساره، وهذا، فعلياً، يرتبط بالذهنية النفعية للنظام الحاكم الذي عندما رسّخَ أخلاقاً شاذة في المجتمع السوري، تتمحور حول القابلية للاستعباد، بات السوريون لا يطمئنون إلا لكاريزما "المنقذ"، الذي تُعَلّق عليه كل الآمال والطموحات، لذا تبنّوا ظاهرة "القدرية" و"التبريرية".

وهو ما يفسر شيوع بعض الاستخدامات اللغوية كالعبارة الشهيرة "سوريا الله حاميها"، كنوعٍ من تبرير منطق الخنوع، والتهرّب من مسؤولية الإصلاح والتغيير، في ظلّ حاكم يُنتخب على مدى الحياة، وتُكال له كلّ آيات المديح والتزلف، حتى يخيّل بأنه الحصن الأوحد، والمتفرّد الذي لا يتعدّد، والكلّ الذي لا شيء بعده، والأفق الذي لا مستقبل دونه. حاكم يمتلك السلطات المطلقة، تتوالد على يديه الهزيمة تلو الهزيمة، مع هذا ينصّب نفسه خليفة الله في أرضه، تمثلّاً لقول معاوية: "الأرض لله.. وأنا خليفة الله، فما أخذته فَلِي، وما تركته للناس فالفضل مني".

"الأسد أو نحرق البلد".. عبارة شهيرة أخرى تبناها نظام الأسد، وليست في الواقع سوى تعبير صريح عن شوفينية متطرفة واستبداد تعسّفي، كما تنمّ عن عقليةٍ مافياوية تُشهر ولاءها لعائلةٍ بتفضيلها على بلد بأسره، بل بتوعّدها بالقضاء على البلد إن لم يتسنّ للحاكم أن يبقى متربّعاً على حكمه وأرزاقه. عبارة تعرّي، لا شك، حقيقة نظامٍ فاشي يتصرف وفق أهوائه ونزواته، ويتحكم بمصير شعب بات يتّسم بالسلبية المطلقة، والتشاؤم وعدم الاستقرار، في مجتمع خامل، معطل، متراجع في كافة مرافق الحياة ووجوهها. عبارة غدت أشبه بـ"لوغو" تبنّاه النظام السوري منذ عام 2011، مع تغيير بسيط اليوم: "الأسد.. وليحرقوا البلد". ولم يكن استهدافُ قصفٍ جوي إسرائيلي لمرفأ اللاذقية، فجر السابع من ديسمبر/ كانون الأول 2021، سوى غيضٍ من فيضِ تورّط النظام السوري في التساهل مع القوى الإقليمية الكبرى، الموغلة في إحراق الأرض السورية تصفيةً لحساباتها الشخصية.

وفي الوقت الذي أكدت فيه وكالة أنباء "سانا" التابعة للنظام السوري، أنّ إسرائيل شنّت هجوماً جوياً بعدّة صواريخ مستهدفاً ساحة الحاويات في ميناء اللاذقية التجاري، وأنّ المواد المستهدفة هي عبارة عن زيوتٍ وقطع غيار آليات وسيارات، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان، استهداف الصواريخ الإسرائيلية، وبشكل مباشر، لشحنةِ أسلحةٍ إيرانية، ما أدى إلى انفجارات عنيفة وخسائر مادية فادحة. وفي الحقيقة مسلسل "العدوان الجبان والاحتفاظ بحقّ الردّ" بدأ منذ عام 2013، حيث نُفذت مئات الضربات المعلَنة وغير المعلَنة ضد الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران. ومع كلّ استهدافٍ إسرائيلي لمواقع في سوريا، يتبجّح النظام بتصديه للهجمات عبر المضادات الأرضية، في حين أنّ صور الأقمار الصناعية تظهر دماراً هائلاً في المواقع العسكرية والمنشآت بعد الاستهداف.

على المقلب الآخر وفي اللحظة ذاتها التي احتفل فيها العالم باستقبال عام جديد، كانت الطائرات الروسية تدكّ منازل وخياماً لمهجرين بالقرب من مدينة جسر الشغور، مخلفة قتلى وجرحى، بينهم نساء وأطفال. وعلى الرغم من أنّ القصف الروسي على إدلب لا يُعدّ مفاجئاً، إلا أن الواضح، وقياساً على العقلية الروسية، أن توقيت الغارات كان الغرض منه تمرير رسائل لتركيا مفادها أنّ العام المقبل لن يكون أفضل من سابقه. بدوره أعلن التحالف الدولي بقيادة واشنطن توجيه ضربة جوية "دفاعاً عن النفس" لمواقع أطلق منها النار على تجمعاته في محافظة دير الزور شمال شرقي سوريا...إلخ.

يقول الكواكبي "الإنسان يقترب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، ولا وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه، وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأنّ المستبدَّ امرؤٌ عاجز مثلهم، زال خوفهم منه وتقاضوا حقوقهم". ويبدو أنّ النظام السوري يعي خطورة هذه الحقيقة المطلقة، لذا لا يتوانى عن توجيه نيران ضعفه وعجزه نحو سوريّي الداخل، حريصاً على أن يكون الخضوع المطلق للحاكم المستبدّ مبتدأ المواطنة، والإذلال والإفقار والتخويف خبرها ومنتهاها. على هذا، وبقصد مزيدٍ من الاستلاب، أصدر بشار الأسد قانوناً مالياً جديداً للوحدات الإدارية، يحدّد جميع القوانين المالية المتعلقة بإيرادات الوحدات، بهدف رفد خزينة الدولة بموارد جديدة.

وفي التفاصيل، حدّد القانون رسوماً سنوية جديدة وفق حصص معينة للعديد من الخدمات، منها العقارات ووسائل النقل ورسوم المرفأ. ولم يوفر القانون حتّى الكلاب، فنصّ على تحديد رسمٍ سنوي وقدره (15) ألف ليرة سورية عن كلّ كلب، باستثناء الكلاب المقتناة لحماية المواشي والمزروعات، وتُعطى مقابل ذلك لوحة ذات رقم في كلّ سنة. وبينما شكلت هذه الظاهرة لأثرياء الحرب مجالاً لاستعراض ثرواتهم بانتقاء أنواع نادرة من الكلاب، كانت تربيةُ كلبٍ حاجةً نفسية لتبديد الوحشة والرعب لدى السوريين الذين لا حول لهم ولا قوة.

في سياق موازٍ يشار إلى أنّ وزير المالية، كنان ياغي، كان قد صرّح بأنّ الحكومة ستعمل على تحسين الإيرادات العامة من خلال مكافحة التهريب والتهرب الضريبي، وزيادة العائدات من استثمار الأصول المملوكة للدولة، بهدف تجنب زيادة معدلات التضخم من جهة، ولضبط العجز في الموازنة العامة للدولة، من جهة ثانية. ولم يقتصر المرسوم الجديد على موضوع الكلاب ورسوم تربيتها فحسب، بل شمل أكثر من عشرين بنداً، تضمنت فرض ضرائب وإتاحة تحصيلها، بالطريقة التي تراها الوزارات المسؤولة عن كلّ قطاع مناسبة، حيث شملت الضرائب وعمليات الجباية الجديدة جميع القطاعات بما في ذلك (المطاعم، الفنادق، مسالخ ذبح الحيوانات، المحروقات، عمليات بيع وشراء وتأجير واستئجار العقارات، المشروبات الكحولية، ضرائب الدخل...).

ويزيد طين البلاد المتهالكة بلّة أنه ما تزال الحكومة السورية تعيش الانفصام بأفظع حالاته، ما يعزّز فرص النظام الحاكم بالبقاء والتغوّل. خذ على سبيل المثال تصريحات وزير التجارة وحماية المستهلك في حكومة النظام السوري، عمرو سالم، حول الأمن الغذائي في سوريا، وبثقة مستفزّة راح يشكك في التقارير الأممية التي تقول إنّ نحو 60% من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ليؤكد أنه "مؤمّن وأكثر من ممتاز"، وأنّ هناك جهوداً كبيرة من حكومة النظام السوري لتأمين كميات كبيرة من القمح، في ذات الوقت وزير الزراعة، محمد حسان قطنا، دعا السوريين إلى الاعتماد على أنفسهم في تأمين الخبز، وعدم انتظار الحكومة لتأمينه!. وتحت ضغط هذه السياسية الاستلابية تتم مصادرة العقول، وتدمير الوعي لتحويل السوريين إلى "قطيعٍ" بشري مسحوق ومقهور.

وفي غمرة هذه الممارسات الأيديولوجية المضادة للإنسان، أعلنت حرب شاملة ضد كلّ مفردات الحياة في سوريا، وفرضت على السوريين حالة عبودية أفقدتهم القدرة على التفكير الحر وممارسة الحياة الكريمة. وبالتساوق مع هذا الواقع الكارثي ليس من الغريب على الإطلاق أن يثير المبلغ المفروض على تربية الكلاب حفيظة السوريين القابعين تحت خط القهر والفقر، حيث نشرت صفحة موالية منشوراً ساخراً من المرسوم جاء فيه: "شو ناطر من بلد بتعطي على الولد (1500) ليرة سورية، وبتاخد على الكلب (15) ألف.. الكلب أغلى من الولد يا خديجة".  

ليفانت - عبير نصر

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!